النائب إلياس جرادي، مسيرة حياة مُقاوم

“رغم أنه من المبكّر الحديث عنها لأننا ما زلنا نلملم جراحنا ونشيّع شهداءنا، لكنّ هذا الحدث أخذ الإنسانية إلى مكانٍ آخر”…
مزارعٌ، طبيبٌ، ونائبٌ لبناني… نشأ إلياس جرادي في عائلةٍ متجذّرة في علاقتها بالأرض. هو ابن المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية، ونتاجُ بيت محبّ ووطني. عاش تجربة الغربة للدراسة والعمل، لكنه عاد إلى وطنٍ ينزف، فتقاسم مع شعبه المعاناة، وقرّر أن ينهض ويواجه، مؤمنًا بإمكانية التغيير.
نشأ جرادي في عائلة كبيرة مؤلفة من ثمانية أبناء ووالديه. لم تكن ظروفهم المادية ميسورة، ما غرس فيه حسّ المسؤولية منذ الصّغر “كنت أعلم أنه إن لم أعمل صيفًا، لا يمكنني أن أتابع تعليمي شتاءً”.
كان والده موظفًا في الدولة، ما جعلهم يتنقّلون بين مناطق لبنانية عدّة، ساهم ذلك في انفتاحه على المجتمع بتنوّعاته، “لم يكن لدينا انحياز طبقي أو ديني أو مناطقي، فقد علّمنا والدي أن نحبّ كل شبر من الوطن كما نحبّ ضيعتنا، بل وأكثر”. كما أثّر عليه انتماء عائلته الوطني ونضالها خاصة أنه من بلدة إبل السّقي الحدوديّة.
محطة مفصليّة
للاجتياح الإسرائيلي للجنوب وقعٌ عميق في نفسه، فقد حمل مع عائلته قضيّة الدفاع عن الوطن، لكن اللحظة المحورية في حياته كانت في أسره بمعتقل الخيام. يرى أن هذه التجربة تركت أثرًا كبيرًا في شخصيّته، إذ فتحت أمامه باب التأمّل في معنى الحياة، وأكّدت له أن البقاء نعمة يجب تقديرها واستثمارها.
عاش جرادي ظروفًا مؤلمة، أبرزها حين اعتُقل شقيقاه، وطُلِب من والده إحضاره للإفراج عنهما. ليُطلَق سراحه بعد ثمانية أشهر بشرط الإبعاد. فزار أهله ثم غادر حتى انسحب الاحتلال عام 2000التي لم يكن حاضراً مباشراً عليها. بعد العودة، زار بلدته كما كان يتخيّل في أحلامه: “كنت أرى والدي ينتظرنا لنعود للأرض، ثم يرحل إلى السماء… وهذا ما حدث فعلاً”.
عاش الحرب الأهلية بكل تفاصيلها، منتقلاً من الجنوب إلى ما كان يُعرف بالمناطق الشرقية “من شدة المواقف التي مررت بها، أشعر أنني على قيد الحياة بمحض الصدفة”.
إصرار على الأثر
كل ما مرّ به راكَم بداخله إصرارًا على أنّ يترك أثرًا، للإنسانية ولنفسه. درس طبّ العيون في الجامعة اللبنانية، وسافر إلى الولايات المتحدة ليتخصّص في جراحة العيون. يقول ببساطة:”ما بينقصني شي، ليه ما بدي حقق شي لنفسي بهالحياة؟..”
السفر… معلّم آخر
شكلت تجربة السفر للدراسة والعمل نقطة تحوّل، فقد علّمته التنظيم، والجدية، والانفتاح على حضارات وثقافات متعدّدة. تنقّل لاحقًا للعمل في الخليج، وواصل أبحاثه الأكاديمية التي غذّت شغفه بالمنهج العلمي، فزادته معرفة وعمقًا في فهم مجتمعه وتاريخه العربي.
اللحظة الخيالية
يستذكر لحظة انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب فيقول: “لم أكن أتابع الأحداث لحظة بلحظة. فتحت التلفاز، ظننت المشهد دعاية أو مشهدًا من فيلم. تنقّلت بين القنوات حتى أدركت أنها الحقيقة، وهي لحظة لا يصفها كلام”. مراحل ترحاله تضمّنها حلم العودة الى لبنان، عبَّر عنها “كانت تضمّ مضاجعي” مستذكراً اغنية فيروز ” وحجار حفافيك، ووجوه جدود لعمروا” العبارة التي دائماً ما يراها في وجوه كل الذين عمَّروا في بلاده.
عودة إلى بلدٍ ينزف
عاد جرادي محمّلاً بالحنين، لكنه صُدم بمشاهد الانهيار الاقتصادي، وبما وصفه بـ”الجريمة” التي كان أحد ضحاياها. ومع أحداث 7 تشرين وانفجار المرفأ، وجد نفسه أمام خيارٍ واحد: الدخول إلى الحياة السياسية، قائلاً: “هذه الأحداث أخرجتني من القوقعة اللي كنت حابس حالي فيها.” توصل إلى قناعة أن التغيير لا يبدأ إلا من الفرد، وأن النظام الطائفي هو المانع الأساس لأي نهضة، إذ يرى فيه مظلّة للفساد والفاسدين.
الجريمة الكبرى
يرى جرادي أن تفجير البيجر شكّل حدثًا كارثيًا على مستوى الإنسانية، أكبر من تفجير قنبلة نووية، إذ حوّل أدوات التكنولوجيا والطبّ إلى أدوات قتل. الأخطر بنظره هو الصّمت الدولي، والتواطؤ الصّريح من البعض. يقول: “هذا الحدث يؤسّس لمجتمع متفلّت من كلّ القيم، كما نراه في الأفلام”.
ورغم كل الجهد الذي بذله في هذا اليوم، إلا أنّه شعر بالعجز أمام فداحة ما رآه، ويقول بحزن: “ما شدّني هو مشهد الجرحى وهم يطلبون منّي أن أساعد غيرهم قبلهم… هذا مشهد إنساني قلّ نظيرُه، فيه الكثير من الإيثار.”
المزارع… كما يحب أن يُلقَّب
بعيدًا عن الطبّ والسّياسة، يظهر جرادي في صورة الإنسان العاشق للأرض. يبتسم ويقول: “الحديث عن الزراعة والحيوانات يريحني. من يجلس معي يلاحظ أنني أنتقل إلى عالم آخر، عالم من المحبة والعطاء”.
الزراعة بالنسبة له ليست مهنة بل نمط حياة، يرى فيها وسيلة لمصالحة الخلق والخالق: “ما شعرتُ به وأنا أزرع لا يُوصف، شعور يشبه خلق الحياة… لا للمنفعة بل للجمال والكمال”. يؤمن أنّ الزّراعة فعل استمراريّة وعطاء، “نفهم من خلالها ما أراد الخالق منّا حين خلقنا”.
رسالته للطلاب
رسالته للطلاب، كما لأبنائه: “ليكن طموحكم بلا سقف، حتى المريخ، لكن ابقوا متجذرين بوطنكم”ويضيف: “لكل واحد منكم شجرة، اعتبروها جزءًا من حياتكم، ازرعوها في أرضكم وحافظوا عليها. طالباّ منهم أن يختاروا الطريق الصعب لا السهل، لأنه طريق الكفاح الحقيقي، وأن لا يقبلوا بالحصول على أي شيء مجانًا، بل أن يكدّوا ويعملوا لتحقق أحلامهم. ويحذّر من خطورة وسائل التواصل الاجتماعي، التي قد تسلب الإنسان هويته وتحوّله إلى مجرد رقم عابر. “خذوا منها ما ينفع، لكن حافظوا على شخصياتكم وهويتكم وانتمائكم”، كما نبّه من التلاعب الإعلامي الذي يسعى للسيطرة على العقول، مشددًا على أهمية البحث عن الحقيقة بالجهد والمعرفة.
لبنان… وطن لا يموت
يختم إلياس جرادي حديثه برسالة: “لبنان عصيّ على الموت، هو أرض مجد الرب، الأرض التي رعاها الخالق. مرّت عليها تجارب مريرة لكنها لم تفنَ. علينا الدفاع عنها كما ندافع عن إنسانيتنا”.
ملاك اسكندر