متفرقات

تزويج القاصرات.. حكايات مرَّة لا تنتهي

قصصهن ليست حكايا جدّاتٍ قرب مواقد الشتاء، بل وقائع مؤلمة لفتياتٍ في عمر الزهور، دُوّنت عقود زواجهنَّ في سجلّات المحاكم الشرعية التي أدركت المكننة والتطور العلمي التكنولوجي، لكنَّ قوانينها ما زالت متعثّرة، تتكسَّرُ التعديلات على أبوابها، وتضيع بسببها أعمار وحيوات الكثير من الفتيات.

الزواج.. مش بس فستان أبيض

تزويج الطفلات أو “زواج القاصرات” كما يُسمّى تخفيفاً، يطال الفتيات دون سن الثامنة عشرة.
ورغم وفرة النقاشات والبحوث والورش الطبية والاجتماعية والنفسية حوله، فإن هذا الملف في بلادنا يصطدم دومًا بجدار الممنوعات “التابوهات” الدينية والتقاليد، ويتوه بين ما يحرّمه القانون وما يبيحه الشرع.

ن.ن. من إحدى قرى قضاء الهرمل، تروي لنا بعين دامعة وصوت مخنوق:
“كنت طفلة، لم أبلغ الخامسة عشرة. عشنا الفقر والتعتير. كان هناك مركز للجيش قرب بيتنا، وبدأ أحد الجنود يلاحقني بنظراته وكلامه، ثم زار أهلي. كان عمره 38 عامًا.
أبي “رحمه الله” رفض لأنه اعتبرني صغيرة، لكن أمي وافقت قائلة: “خليها تنستر، عسكري ومأمّن حالو”.
تتابع وهي تمسح دموعها: “لم تدُم الخطوبة شهرين، ثم انتقلنا للعيش خارج البلدة بعد الزواج. وفي أقل من عام، انقلبت معاملته لي رأساً على عقب، وصارت الخياة مليئةً بالنزاعات”.
وتضيف بأسى:
“أبي لم يكن راضيًا. ولو كان حيًّا اليوم لما قبل بهذا الزواج.
ابنتي لن تتزوّج قبل أن تُنهي دراستها الجامعية، ناصحة من يسمعها:
لا تسمحوا لبناتكنَّ بالتفكير بالزواج قبل العشرين عاماً على الأقل”.

م.ح. من عرسال، تبلغ الثامنة عشر عامًا وهي أم لطفل في الثالثة، تقول بابتسامةٍ ساخرة:
“الحبّ؟ الله يلعن أبو الحبّ… وخطيفة كمان!”
وتستعيد: “كان يمرّ أمام بيتنا بدراجته، يستعرض حركاته، وأنا أفرح. ذات يوم طلب مني الهروب معه.. ووافقت”.
تتابع بحزن: “مش بس طفولتي ضاعت، عمري كلّه راح”.
قبل أن تبلغ الخامسة عشرة أنجبت طفلها، الذي تولّت والدتها رعايته بالكامل “صار يفتكرها أمّه، ونربّيه سوا”.

اليوم، وبعد انقطاع سنوات عن الدراسة، بدأت م.ح. تلتحق بمعهد خاص بهدف تقديم الشهادة المتوسطة تمهيدًا لإكمال تعليمها الثانوي أو المهني. وتختم:
“ما بلوم أهلي، أنا اللي هربت. بس بنصح أي بنت ما تتزوّج قبل العشرين. الزواج مش لعبة ولا فستان أبيض”.

الدين والبلوغ والزواج

بحسب ما أطلعنا به رئيس قلم محكمة عرسال الشرعية الشيخ محمد كرنبي فإنَّ تحديد سنّ الزواج بالثامنة عشر هو مخالفٌ تماماً للشريعة عند المسلمين، والتي تربط الزواج بالبلوغ الجسدي.
يتابع كرنبي:
“الشرط الشرعي هو البلوغ، لكن المحاكم تطلب تقريرًا طبيًا للفتيات دون 16 عامًا يثبت جهوزيتهن النفسية والجسدية”.

في المقابل، لا يمانع رجال الدين المسيحيون تحديد السن القانونية للزواج، لكنهم يصرّون على قدسية الزواج الكنسي وربطه بالتشريع الديني، وفقاً لما أفادنا به الأب رولان خوري.

قوانين في الأدراج

تحاول اللجنة الوطنية لشؤون المرأة بالتعاون مع نواب وناشطين الدفع باتجاه قانونٍ يحدِّد منذ عام 2014، سن الزواج ب الثامنة عشر عامًا.
تمثلت إحدى المحاولات في مشروع قدّمه النائب غسان مخيبر، يشترط موافقة قاضي الأحداث على الزواج دون الثامنة عشر.

تعلق الناشطة الحقوقية مريم خلف التي شاركت بنشاط وفاعلية في حملة “مش قبل ال18”،
“أطلقنا الحملة بالتعاون مع منظمات محلية ودولية ووزارة الشؤون الاجتماعية،
ونفذنا مشاريع توعوية حول الحقوق الجنسية والإنجابية، وإدارة الحالات”, مضيفةً بتفاؤل:
“على الصعيد القانوني، قدّم النائبان جورج عقيص وأنطوان حبشي مشروع قانون واضح إلى لجنة حقوق الإنسان.
عُقدت جلستان، وستُعقد الثالثة قريبًا، ونأمل أن يُقرّ المشروع”.

ويعتبر حبشي:
“الموضوع ليس دينيًا، بل إنسانيًّا. الفتاة القاصر غير قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية أو إدارة أسرة.
المشروع واجه معارضةً على اعتبار أنَّ المجتمع غير جاهز، لكننا مستمرّون”.

الطب يُحذّر

من الناحية الطبية، تؤكد الدكتورة منال زعرور المتخصصة في الطب النّسائي والتَّوليد:
“الفتيات في سن الرابعة عشر يُعتبر طفلات. أجسادهن غير مكتملة، وحملهن خطر على صحتهن،
ما يستدعي غالباً الولادة القيصرية، وهذا يترك آثارًا صحية سلبية دائمة”.

وتتابع:
“زواج الطفلات مشكلة طبيّة واجتماعية ونفسية. لا مبرّر له لا بالدين ولا بالتقاليد،
وقد تسبب بشكل مباشر أو غير مباشر بوفاة العديد من الفتيات في غرف الولادة، فجسم الفتاة غير مكتمل النمو، الحوض والرحم لديها غير جاهزين بيولوجيًا للولادة، وبالتالي هذا الأمر يمكن أن يؤدي إلى مشاكل صحية عند كنقص الأوكسجين عند الأطفال.
كما أن عدم جهوزية جسم الأم يزيد خطر المضاعفات مثل: النزيف، تمزق الرحم، أو الولادة المتعسرة.
ما يرفع خطر الوفاة أثناء الولادة”.

المنظمات الدولية في مكافحة زواج القاصرات

بحسب منظمة الصحة العالمية، فإنَّ الفتيات بين خمسة عشر وتسع عشرة عامًا أكثر عرضة للوفاة نتيجة الحمل والولادة مقارنة بالنساء الأكبر سنًا.
كذلك هناك مخاطر كبيرة على حياة الجنين أو المولود: الولادة المبكرة، الوزن المنخفض عند الولادة،
كما ترتفع على إثره وفيات المواليد خلال الأسبوع الأول أو الشهر الأول من الحياة.

لهذا تدعو المنظمات الدولية مثل Girls Not Bride إلى تجريم الزواج المبكر وتوفير التوعية والرعاية الصحية للحد من هذه الظاهرة، لأنه يعد من أشكال العنف ضد الفتيات.

الخلاصة

قصة زواج القاصرات ليست فقط أرقاماً أو قوانيناً، إنها حياة فتيات ضحّين بطفولتهن وأحلامهن. أمام هذا الواقع المؤلم، لا يمكن أن نكتفي بالمراقبة أو التبرير. كل واحدة من هذه الفتيات تستحق فرصة كاملة لتعيش طفولتها، تتعلم، وتحلم بمستقبل أفضل. من واجبنا كمجتمع أن نوقف هذا العنف الصامت ونقف إلى جانبهنّ. لا وقت للانتظار، فكل يوم يتأخر فيه الإصلاح هو حياة تُهدَر وأمل يُسلب.

 

https://www.unicef.org/press-releases/global-polycrisis-creating-uphill-battle-end-child-marriage-unicef

https://www.girlsnotbrides.org

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى