مرضى نقص الفيبرينوجين في لبنان: حين يصبح العلاج مستحيلاً… والموت أقرب من الدواء..

“كلها فترة وبترتاحوا…”
يقولها أحمد بهدوء، مع ضحكةٍ خافتةٍ تُخفي ألمًا عميقًا، ودمعةٍ تكاد تُمسك نفسها في عينيه المرهقتين، وكأنه يعتذر عن ألمه، عن حاجته للعلاج، وعن كل جرعة دواءٍ ناقصةٍ، وعن كل معاناةٍ عاشتها عائلته جرّاء تكاليف العلاج الباهظة التي أرهقت والدته الأرملة.
أحمد… جسد ينزف منذ الطفولة
أحمد الفليطي شاب عشريني من بلدة عرسال/قضاء الهرمل،
مصابٌ بنقص الفيبرينوجين (Afibrinogenemia)، والذي أدى إلى إصابته لاحقًا بمتلازمة بود-كياري.
نقص الفيبرينوجين هو أندر أنواع الهيموفيليا، ناتج عن غياب أو نقص عامل التخثر رقم 1، وهو بروتين يصنعه الكبد ويُعدّ أساسًا في تكوين الخثرة الدموية.
غيابه يؤدي إلى نزيف داخلي خطير، خصوصًا في الكبد، الرئة، أو الدماغ.
متلازمة بود-كياري هي حالة نادرة تحصل بسبب انسداد في أوردة الكبد، ما يمنع تصريف الدم منه ويسبب احتقانًا، وتورمًا، وتلفًا كبديًا بشكل تدريجي.
أمضى أحمد حياته وهو يواجه نزيفًا بعد نزيف، وتجلطًا بعد تجلط، حتى أصيب بتشمع الكبد.
أما اليوم، فأُضيف إلى حالته مرض الاستسقاء البطنيّ، وتضخم الطحال.
الأخصائي في أمراض الدم والجهاز الهضمي الدكتور بيتر نون:
زراعة الكبد: أمل بالحياة أم طريق خطر في ظل غياب العلاج؟
الأمل الوحيد للبقاء على قيد الحياة هو في إجراء جراحة زراعة الكبد. هكذا يظن أحمد، ويردد بشكل مستمر:
“ما في حل غير إنو نزرع كبد”، سائلاً بإلحاح: “رد عليكن الدكتور، بيقدورا يأمنولي عملية؟”
وبالرغم من تعبه ويأسه أحيانًا، لا يزال يأمل أن تُفتح له طاقة نورٍ تنتشله من طريق الموت.
لكن الحقيقة التي يجهلها أحمد هي أن عملية زراعة الكبد في مثل هذه الحالات قد تكون قاتلة، في ظلِّ غياب جرعات الفيبرينوجين، بحسب تقارير معظم الأطباء المختصين.
المرض الذي لا يعرفه أحد… إلا من ينزف منه
حالة أحمد “نادرة” كما وصفها الأطباء، لكنها ليست الوحيدة في لبنان أو بالأحرى في “بلدة عرسال”،
فوفقًا لما أطلعنا به الدكتور بيتر نون، فإنَّ 99% من المصابين بهذا المرض هم من هذه البلدة تحديدًا،
لكن حالات معدودة فقط وصلت إلى ما وصل إليه أحمد.
ويُقدّر انتشار نقص الفيبرينوجين عالميًا بـ 1 إلى 2 حالة لكل مليون شخص،
أما في لبنان، فيبلغ المعدل نحو 4 حالات لكل مليون (21 حالة بين 6 ملايين نسمة تقريبًا).
يقول د. نون:
“هيدا المرض نادر، محيِّر… المريض بحاجة لدواء يوقف التجلط، وبنفس الوقت بدو دواء يوقف النزيف… يعني كلّ علاج يعاكس الآخر، والمشكلة أنّه ما فينا نوقف واحد بدون ما نأذي المريض.”
وبحسب نون، فإن أسباب نقص الفيبرينوجين تنقسم بين الوراثية والجينية،
ويُعتبر زواج الأقارب، خصوصًا أولاد العم، من أبرز العوامل المؤدية، وهو أمر شائع في عرسال منذ القدم،
إضافةً إلى غياب التوعية الجينية وفحوصات ما قبل الزواج.
يوسف… بين الأنين والعجز الطبي
ولد يوسف في سياقٍ عائلي فيه تاريخ مرضي وراثي.
تم تشخيص حالته بعد أيامٍ من الولادة بـ “نقص الفيبرينوجين الكامل” (Afibrinogenemia)، بعد حدوث نزيف في الحبل السري.
كما أظهرت تحاليله الجينية طفرة HomFGAL212X.
وضع يوسف لا يقل تعقيدًا عن وضع أحمد، بل يُعتبر أكثر صعوبة.
فـ “يوسف الطفل” عانى من نزيف متكرر منذ الطفولة وحتى عام 2024:
نزيف جلدي (mucocutaneous)، عضلي (muscular)، دم في البول (hematuria)، التهابات كلوية (colitis، nephritis).
ونال تقييم ISTH للنزيف بدرجة 33، أي “مؤشر شديد جدًا”، وذلك نتيجة لانقطاع الفيبرينوجين في لبنان.
في عمر السنتين تقريبًا، ظهر لدى يوسف تضخم في الطحال (Splenomegaly)،
كما أظهرت فحوصاته إصابته بمتلازمة بود-كياري (انسداد كامل في الوريد الكبدي العلوي)،
وتبيّن أيضًا أنه يحمل طفرة عامل لايدن (heterozygous FV Leiden)، وهو ما يزيد خطر التجلطات بشكل كبير.
في 10 كانون الأول 2024، أُجريت له عمليّة craniectomy، أزيل خلالها جزء من الجمجمة، بعد تعرّضه لنزيف دماغي حاد
https://youtube.com/shorts/wPX3P6J0lW4?si=XheVWz6sretUHisx
فادي عزالدين، والد يوسف، أكّد أن جميع الأطباء الذين اطّلعوا على حالة ابنه قالوا إن الحل الوحيد هو زراعة كبد كامل.
ويتابع: “نقلناه إلى مصر، لكن الأطباء هناك أكّدوا أن لا مجال للزرع، خاصةً وأن لديه شريانًا مسدودًا.”
كما أن الاختصاصية في أمراض الدم، الدكتورة كلوديا خيّاط، أكدت له خلال متابعتها للحالة أن الحل الوحيد هو زراعة الكبد،
لكنها سرعان ما عادت وأبلغته أن لا فائدة من العملية،
وأن فرنسا لم تعد تستقبل مثل هذه الحالات، بعد وفاة عمر كرنبي خلال إجراء جراحة مماثلة،
وذلك بسبب نقص الفيبرينوجين في الدم.
“وزارة الصحة تتحرّك: الفيبرينوجين قريبًا بيد المرضى… وآلية التوزيع على الطاولة”:
في بلدٍ تتراكم فيه الأزمات، يبقى أحمد ويوسف وغيرهم من مرضى نقص الفيبرينوجين مجرد أرقام غير مرئية،
يعانون بصمت… وينزفون بصمت.
في كلّ جرعة دواء مفقودة، وجع.
وفي كلّ مراجعة طبية لا تؤدي إلى حل، خيبة جديدة.
هم لا يطالبون بالمستحيل، بل بحق بسيط: أن يعيشوا بكرامة، أن يتلقّوا علاجًا يُنقذهم من دوّامة النزيف،
وأن لا يشعروا بأنّ أجسادهم عبء على من يحبّهم.
أحمد لا يريد أكثر من أن يطمئن والدته،
ويوسف لا يريد أكثر من أن يكبر كباقي الأطفال.
وغيرهم كثيرون خلف جدران منازلهم، يختبئون بصمتٍ خجول، لا يخرجون… لا لأنهم لا يريدون، بل لأن أجسادهم أرهقها التعب، وكأنّهم يعتذرون من الحياة عن ضعفهم. يفضّلون الصمت، معتبرين أن الشكوى لغير الله مذلّة، وأن الألم قدرٌ يُحتمل في الخفاء.
فهل من يسمع صوت الدم…وهو ينزف!؟
هدى فليطي