“الانتاج الزراعي على كف عفريت”

“الانتاج الزراعي على كف عفريت”
الزراعة اللبنانية تختنق بصمت
بين وديان صنين، وسهول بعلبك، وقرى جبل لبنان، لا يزال المزارع اللبناني يحفر الأرض بيديه، يرشّها، يسقيها، يراقبها كما لو أنها طفلُه الوحيد. لكن ما إن تنضج الثمار، حتى تبدأ الحيرة: أين نبيع؟، كيف نصرف الإنتاج؟، ومن يربح من تعبنا؟
في بلد لطالما تغنّى بأنه “أخضر من فوق”، تعاني الزراعة من إهمال مزمن. ومع كل موسم، تتكرّر الأزمة نفسها: الإنتاج وفير، لكن السوق غائب، والدولة عاجزة.
المشكلة في عيون الدولة: كلفة النقل وإغلاق الحدود
في اتصال هاتفي مع وزير الزراعة اللبناني الدكتور نزار هاني أوضح أن أبرز عوائق تصريف الإنتاج تكمن في ارتفاع كلفة النقل البحري، حيث كانت كلفة شحن الحاوية لا تتعدى 400 دولار، لكنها وصلت مؤخرًا إلى أكثر من 1000 دولار. وعلى الرغم من نجاح الوزارة في خفضها جزئيًا إلى حدود 500-600 دولار بالتفاوض مع شركة CMA، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا لجعل الصادرات اللبنانية قادرة على التنافس في الأسواق الخليجية.
وأشار الوزير إلى أن فتح الخط البري عبر سوريا نحو الخليج هو الخيار الوحيد الجدي، وهو مرتبط بعلاقات لبنان الدبلوماسية مع السعودية، مؤكدًا وجود مساعٍ لفتح الطريق.
كما كشف عن خطة لاعتماد الزراعة التعاقدية، خاصة في زراعات البطاطا، بالتوازي مع جهود لتحسين جودة الإنتاج وتأهيله للتصدير إلى أوروبا، خصوصًا في قطاعات العسل وزيت الزيتون.
رؤية الخبراء: التخبط والتكاليف يقتلان الإنتاج
في مقابلة مع المهندس الزراعي محمد زعيتر، سلّط الضوء على واقع عشوائي تتخبط فيه الزراعة اللبنانية. فمع غياب أي تخطيط أو توجيه رسمي للمواسم، يعاني المزارعون من:
كلفة إنتاج باهظة تشمل المبيدات، السماد، الري، والبذار المستورد.
سوق محلي محدود ومشبع، لا يمتص فائض الإنتاج.
منافسة خارجية قاسية من المنتجات التركية والمصرية الأرخص.
وأوضح زعيتر أن غياب التصنيع الزراعي المحلي يحرم المزارعين من تصريف الفائض، داعيًا إلى تفعيل الإرشاد الزراعي وخفض الاعتماد على الاستيراد، وإنشاء مصانع لإنتاج المبيدات والأسمدة محليًا.
شهادات من الأرض: “منزرع… ونتديّن”
صنين – مارون مدوّر:
“نزرع بأيدينا… ليحصد غيرنا الأرباح.”
يقول مارون، المزارع في صنين، إن الأزمة ليست جديدة، بل بدأت منذ الحرب السورية عندما توقفت حركة التصدير، ما جعل مواسمهم تتكدّس في الأسواق دون تصريف.
“أنا عامل خيمة ببيع فيها على قدّي، بس غيري ما عم يرجّع حتى حق المبيدات والتعب.”
ويضيف:
“كل سنة منتعب، منزرع، ومنبيع… وبنضل مديونين. بدنا الدولة تفتح أسواق وتشيل عنّا الغبن.”
جبل لبنان – الياس أبو حيدر:
“نحنا منبيع التفاح بـ50 ألف… وبيتباع بالسوق بـ250!”
يشكو الياس من احتكار سوق الجملة من قبل التجار، إذ يبيع المحصول بسعر ثابت ومعلن، لكنه يُفاجأ بتضخم السعر بعد التوزيع، بينما المزارع لا يربح شيئًا.
ويختم بحرقة:
“إذا المزارع وقع، البلد بيوقع… نحنا ما بدنا معجزات، بدنا الدولة توقف حدّنا.”
بعلبك – اللبوة – حسين حبش:
“التفاح عم يذبل بالأرض قبل ما نوصل نبيعه.”
في موسم القطاف، يجد حسين نفسه أمام خيارين: إما بيع الإنتاج بأسعار مجحفة (5 دولارات للقفص)، أو تركه يسقط أرضًا.
“التجار بيتحكموا بالسعر، ونحن مجبورين نبيع لأن كلفة النقل والمبيدات بتخنقنا.”
سهل اللبوة – الحاج محمد رباح:
“كل شي غالي… والمردود صفر.”
يشرح محمد أن قفص التفاح يُباع بـ5 دولارات فقط، ما يعني أن الكيلو يُباع بـ20 أو 30 ألف ليرة، وهو سعر لا يغطي كلفة السماد وحدها.
“ما في سوق غير المصري… ونحنا بحاجة لأسواق حقيقية ودعم واضح.”
الحلول المقترحة: بين الممكن والضروري
فتح الخط البري نحو الخليج لتفعيل التصدير وتخفيف الكلفة.
خطة زراعية وطنية تنظم المواسم وتحدد الكميات بحسب حاجة السوق.
دعم التصنيع الزراعي المحلي لامتصاص الفائض وتحويل الإنتاج إلى مواد مصنّعة قابلة للتخزين والتصدير.
تشجيع الزراعة التعاقدية بين المنتج والمصنّع والمصدر.
إنتاج محلي للمبيدات والأسمدة وتقليل الاعتماد على الاستيراد.
تحرير الأسواق من احتكار التجار ووضع سقوف للأسعار وربطها بكلفة الإنتاج الحقيقية.
الزراعة ليست مهنة… بل مقاومة
الزراعة في لبنان تحوّلت من قطاع إنتاجي إلى فعل صمود. ومع غياب الدولة، وغياب السوق، لم يتبقّ للمزارع سوى الأرض، والعزيمة، والخسارة.
لكن هذا البلد الذي عُرف دومًا بخضرته، لا يمكن أن ينجو دون مزارعيه. وإذا كان الدعم السياسي غائبًا، فإن الصوت الإعلامي لا بد أن يبقى حاضرًا، صارخًا:
“المزارع مش متسوّل… هو العمود الفقري لهالبلد. احموه… قبل ما ينكسر.”
رنا شريف – جمال الرّمح – هدى فليطي