قضايا منوّعةمتفرقات

تيك توك في لبنان… منبر تواصل أم ساحة فوضى رقمية؟

بقلم: حسين عبدالله

في السنوات الأخيرة، شهد لبنان تحولًا لافتًا في طريقة استخدام منصة “تيك توك”، التي بدأت كمساحة للترفيه والفكاهة، لتصبح تدريجيًا ساحة صاخبة للنزاعات الرقمية، ومسرحًا لتقاطع المال، السياسة، والانفلات الأخلاقي. بات التطبيق وجهًا رقميًا يعكس تعقيدات المجتمع اللبناني، حيث تلتقي الحاجة إلى التعبير مع طموحات الشهرة والربح السريع، في غياب واضح لأي رقابة حقيقية أو مساءلة.

مشهد البثوث المباشرة (اللايفات) بين مؤثري تيك توك في لبنان لم يعد يقتصر على الترفيه، بل تحوّل إلى حلبة للشتائم المنظمة، الإهانات المسرحية، والمواجهات المفبركة. المؤثرون أنفسهم باتوا يستخدمون هذه اللايفات لاستفزاز بعضهم البعض عمدًا، بهدف جذب التفاعل وتكديس الهدايا الرقمية التي تُترجم إلى أرباح بالدولار، دون حسيب أو رقيب. اللغة السوقية، الإيحاءات الجنسية، والمحتوى الفجّ، باتت مكوّنات أساسية في استراتيجية بعضهم للوصول إلى التريند، ولو على حساب الذوق العام والكرامة الإنسانية.

اللافت أن ما يجري أمام الكاميرات ليس سوى رأس جبل الجليد. فخلف هذا العالم العلني، تنشط “غرف ظل” رقمية تدير اللعبة من وراء الستار. شهادات من مؤثرين سابقين كشفت عن وجود مجموعات مغلقة تُدار عبر تيليغرام وإنستغرام، تضم مؤثرين كبارًا، وسطاء ماليين، مشغّلين من الخارج (خاصة من تركيا والخليج)، وأحيانًا وسطاء عن شخصيات سياسية. هذه الغرف تُستخدم لتنسيق اللايفات الهجومية، وتوجيه الرأي العام، وقصف خصوم رقميين، وحتى التحريض الطائفي مقابل المال.

بعض المؤثرين يتقاضون آلاف الدولارات شهريًا من شركات تسويق وهمية مقابل إثارة الجدل أو نشر محتوى تحريضي. وتحديدًا قبيل استحقاقات سياسية أو اجتماعية حساسة، تُستخدم هذه الشبكات لخلق رأي عام مزيّف، أو توتير الشارع طائفيًا، تحت غطاء “المحتوى الترفيهي”. الخطر لا يكمن فقط في طبيعة هذا المحتوى، بل في غياب أي رقابة من المنصة أو الدولة اللبنانية، التي تفتقر لأي استراتيجية رقمية واضحة لمكافحة هذه الفوضى.

ومن زاوية أكثر ظلمة، يبرز استغلال القاصرين. يُنشئ البعض حسابات مزيفة بأسماء وصور أطفال، يُستدرج من خلالها المتابعون إلى محادثات خاصة، ثم تُباع لاحقًا على الدارك ويب، أو تُستخدم لتصوير الأطفال في بثوث مشبوهة. في حالات أخرى، يجري التحرش اللفظي بمراهقات خلال لايفات، أو تُدفع الفتيات إلى الانتقال إلى إنستغرام أو سناب شات، حيث تبدأ محادثات خاصة قد تنتهي بابتزاز أو استغلال.

تيك توك في لبنان أيضًا بات ساحة لـ”السوق السوداء الرقمية”، حيث تُباع وتُشترى الهدايا من خارج التطبيق، عبر وسطاء خاصين يستخدمون بايبال وبطاقات وهمية، ما يفتح الباب أمام شبهات التبييض والتهرب الضريبي. بعض المؤثرين يستغلون صور الفقر والحرمان لنشر محتوى إنساني يستدرّ العاطفة، لكن الأموال التي تُجمَع لا تصل دائمًا إلى أصحاب الحاجة، بل تنتهي في حسابات المؤثرين أنفسهم.

ولا يقف الأمر عند التسوّل الرقمي أو التحرّش، بل يمتد إلى تنسيق حملات إسقاط الحسابات المنافسة عبر تبليغات جماعية منظمة. يتم تنفيذ هذه الهجمات الإلكترونية في أوقات محددة، وغالبًا ما تنجح بسبب اعتماد تيك توك على خوارزميات مراجعة آلية، مما يجعل من السهل إسكات صوت أي مؤثر غير مرغوب فيه من قبل “غرف القيادة”.

وسط هذا المشهد المقلق، يبقى السؤال الكبير: من يموّل هذه الحسابات؟ من يُحرّك الخيوط؟ من يربح ومن يخسر؟ ومتى تتحرّك الدولة اللبنانية لمواجهة هذا العالم المنفلت؟

رغم كل ما سبق، لا يمكن تجاهل حقيقة أن تيك توك لا يزال منصة مهمة للتعبير، خاصة في بلد يعاني من تراجع الحريات العامة ومحدودية فرص العمل. الكثير من اللبنانيين يستخدمونه لصناعة محتوى هادف، أو للترويج لأعمالهم الصغيرة، أو حتى للترفيه النظيف. لكن الخط الفاصل بين حرية التعبير والانحراف الرقمي بات هشًا جدًا، والخوارزميات لا تفرّق بين الهادف والمسيء، بل تكافئ من يجذب التفاعل، مهما كانت وسيلته.

الواقع اليوم يُحتم اتخاذ خطوات عاجلة. أولها تشكيل لجنة مشتركة من وزارتي الإعلام والعدل، تتولى التحقيق في الانتهاكات الرقمية، ومخاطبة إدارة تيك توك لتعيين مراقب محتوى محلي مختص بالسوق اللبناني. كما يجب إطلاق حملات توعية رقمية، تشارك فيها المدارس والمجتمع المدني، لتثقيف الأهل والمراهقين بمخاطر هذا الفضاء الرقمي غير المنضبط.

تيك توك في لبنان ليس مجرد تطبيق، بل ساحة حرب ناعمة تُخاض فيها معارك الطائفية، الربح، والشهرة، على حساب القيم والاستقرار. وبينما تتسابق الأصوات على كسب التفاعل، يخسر المجتمع شيئًا من أخلاقه كل يوم. فهل من يتحرّك قبل أن يُصبح الترند هو الفتنة نفسها؟ نترك الإجابة للجهات المختصة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى